طلاق الغضبان

2- وأما الطلاق في حالة الغضب، فقد اختلف الفقهاء في حكمه، وفقا لاتجاهاتهم في التوسيع أو التضييق في إيقاع الطلاق.
وإذا كان الأمر خلافيا وجب علينا أن ننظر في أدلة الفريقين، لنختار أرجحها وأقربها إلى تحقيق مقاصد الشريعة.
3- وقبل أن نبين الرأي المختار في طلاق الغضبان، يلزمنا أن نبين الغضب المختلف فيه بين المضيقين والموسعين، يقول العلامة ابن القيم:
الغضب ثلاثة أقسام:
أحدهما: أن يحصل للإنسان مبادئه وأوائله، بحيث لا يتغير عليه عقله ولا ذهنه، ويعلم ما يقول ويقصده. فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه وعتقه وصحة عقوده، ولا سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردد فكره.
القسم الثاني: أن يبلغ به الغضب نهايته، بحيث ينغلق عليه باب العلم والإرادة، فلا يعلم ما يقول، ولا يريده. فهذا لا يتوجه خلاف في عدم وقوع طلاقه، كما تقدم. والغضب غول العقل، فإذا اغتال الغضب عقله، حتى لم يعلم ما يقول، فلا ريب أنه لا ينفذ شيء من أقواله في هذه الحالة، فإن أقوال المكلف إنما تنفذ مع علم القائل بصدورها منه، ومعناها، وإرادته للتكلم بها.
فالأول: يخرج النائم والمجنون والمبرسم والسكران، وهذا الغضبان.
والثاني: يخرج من تكلم باللفظ وهو لا يعلم معناه البتة، فإنه لا يلزم مقتضاه.
والثالث: يخرج من تكلم به مكرها، وإن كان عالما بمعناه.
القسم الثالث: من توسط في الغضب بين المرتبتين، فتعدى مبادئه ولم ينته إلى آخره بحيث صار كالمجنون -فهذا موضع الخلاف ومحل النظر. والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه وعتقه وعقوده، التي يعتبر فيها الاختيار والرضا، وهو فرع من "الإغلاق” كما فسره به الأئمة.
فالمضيقون في إيقاع الطلاق -ومنه طلاق الغضبان- يستندون إلى عدة أدلة.
(أ) ما روته عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق”. رواية أبي داود "في غلاق”، قال: أظنه الغضب.
وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله -يعنى أحمد بن حنبل- يقول: هو الغضب وقال بعض أهل اللغة: الإغلاق وجهان، أحدهما، الإكراه، والآخر: ما دخل عليه مما ينغلق به رأيه عليه.
وهذا مقتضى تبويب البخاري، فإنه قال في صحيحه: باب الطلاق في الإغلاق (الغضب) والكره (أي الإكراه) والسكران والمجنون، ففرق بين الطلاق في الإغلاق وبين هذه الوجوه، مما يشير إلى أن الإغلاق عنده يعني الغضب.
قال الإمام ابن القيم: وهو قول غير واحد من أئمة اللغة.
(ب) قال الله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم).
روى ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان.
وروى عن أجل أصحاب ابن عباس وهو طاووس قوله: "كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان فلا كفارة عليه”. واستدل بالآية.
قال ابن القيم:
وهذا أحد الأقوال في مذهب مالك: أن لغو اليمين في الغضب، وهذا اختيار أجل المالكية وأفضلهم على الإطلاق، وهو القاضي إسماعيل بن إسحاق. فإنه ذهب إلى أن الغضبان لا تنعقد يمينه.
(ج) ما حكاه القرآن من قصة موسى، لما رجع إلى قومه غضبان آسفا، (وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه، يجره إليه..) الآية.
ووجه الاستدلال بالآية: أن موسى لم يكن ليلقى إلى الأرض ألواحا كتبها الله كما أنه قسا على أخيه وهو نبي رسول مثله وإنما حمله على ذلك الغضب، فعذره الله تعالى به، ولم يعتب عليه بما فعل، إذ كان مصدره الغضب الخارج عن سلطان قدرته واختياره.
(د) يوضح ذلك الآية الكريمة الأخرى في نفس السورة (ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح) فعبر بـ "سكت” تنزيلا للغضب منزلة السلطان الآمر الناهي، الذي يقول لصاحبه: افعل أو لا تفعل، فهو مستجيب لداعي الغضب المسلط عليه، فهو أولى بأن يعذر من المكره.
(هـ) قال تعالى: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم) جاء عن مجاهد في تفسير الآية: هو قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليهم: "اللهم لا تبارك فيه والعنه” فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك، كما يستجاب في الخير لأهلكهم. قال ابن القيم: فانتهض الغضب مانعا من انعقاد سبب الدعاء، الذي تأثيره في الإجابة أسرع من تأثير الأسباب في أحكامها، لأن الغضبان لم يقصده بقلبه.
(و) إن الغضب يحول بين الإنسان وبين سلامة التفكير، وصحة الإدراك ويشوش عليه معرفة الأمور، وحكمه على الأشياء، ولهذا جاء في الحديث الصحيح "لا يقضي القاضي وهو غضبان”. والطلاق حكم من الرجل يصدره على المرأة فلا يجوز أن يصدر منه وهو غضبان إذا صدر ينبغي أن يلغي اعتباره حماية للمرأة وللأسرة.
(ز) إن معظم الأدلة التي اعتمدنا عليها في عدم إيقاع طلاق السكران، تنطبق على حالة الغضبان، بل قد يكون الأخير أسوأ حالا من الأول، لأن السكران لا يقتل نفسه، ولا يلقي ولده من علو، والغضبان قد يفعل ذلك.
إن قاعدة الشريعة: أن العوارض النفسية لها تأثير في القول إهدارا واعتبارا وإعمالا وإلغاء. وهذا كعارض النسيان والخطأ والإكراه والسكر والجنون والخوف والحزن والغفلة والذهول. ولهذا يحتمل من الواحد من هؤلاء من القول مالا يحتمل من غيره، ويعذر بما لا يعذر به غيره، لعدم تجرد القصد والإرادة، ووجود الحامل على القول.
ولهذا كان الصحابة يسأل أحدهم الناذر: أفي رضا قلت أم غضب؟ فإن كان في غضب، أمره بكفارة يمين، لأنهم استدلوا بالغضب على أن مقصوده الحض والمنع كالحالف، لا التقرب… وجعل الله سبحانه الغضب مانعا من إصابة الداعي على نفسه وأهله… وجعل سبحانه الإكراه مانعا من كفر المتكلم بكلمة الكفر… وجعل الخطأ والنسيان مانعا من المؤاخذة بالقول والفعل.
وعارض الغضب قد يكون أقوى من هذه العوارض، فإذا كان الواحد من هؤلاء لا يترتب على كلامه مقتضاه لعدم القصد، فالغضبان الذي لم يقصد ذلك إن لم يكن أولى بالعذر منهم، لم يكن دونهم.
وإذا كنا قد رجحنا عدم وقوع الطلاق في حالة الغضب، لما ذكرنا من الشواهد والأدلة، فمن الواجب أن نعرف المقياس الذي نحدد به حالة الغضب التي لا يقع فيها الطلاق، من الحالات الأخرى. لأن ترك مثل هذا الأمر بلا ضوابط يؤدي إلى البلبلة والاضطراب.
وقد رأينا الإمام ابن القيم -ومن قبله شيخ الإسلام ابن تيمية- يميلان إلى جعل المقياس هو انعدام القصد والعلم. فمن فقد قصده إلى الطلاق وعلمه بما يقول، فهو في حالة الإغلاق… الذي لا يقع به طلاق.
ولكن علامة الحنفية الشيخ ابن عابدين في حاشيته المشهورة على "الدر المختار” بعد أن نقل كلام ابن القيم في تقسيم أحوال الغضب إلى ثلاثة، كما ذكره في رسالته في حكم طلاق الغضبان، ملخصا من شرح الغاية في الفقه الحنبلي، "استظهر أنه لا يلزم في عدم وقوع طلاق الغضبان -وكذا المدهوش ونحوهما- أن يكون بحيث لا يعلم ما يقوله، بل يكتفي فيه بغلبة الهذيان، وغلبة الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته، واختلاط جده بهزله، فهذا هو مناط الحكم، الذي ينبغي التعويل عليه. فمادام في حال غلبة الخلل في الأقوال والأفعال، لا تعتبر أقواله، وإن كان يعلمها ويريدها، لأن هذه المعرفة والإرادة غير معتبرة لعدم حصولها عن إدراك صحيح. كما لا يعتبر من الصبي العاقل”.
وعندي أن ما ذكره ابن عابدين مقياس دقيق وضابط سليم. فالغضب المعتبر هو الذي يفقد الإنسان اتزانه في الكلام والتصرف، بحيث يقول ويفعل ما ليس من شأنه ولا من عادته في حال الهدوء والرضا.
ولنا أن نضيف علامة أخرى. نميز بها الغضب المستحكم من غيره، وقد نبه عليها ابن القيم في "الزاد” وهي أن يندم على ما فرط منه إذا زال الغضب، فندمه بمجرد زوال الغضب يدل على أنه لم يكن يقصد إلى الطلاق.
والله أعلم.یوسف القرضاوی
شیخ بن باز یفتی کما یلی ،
إذا كان الطلاق المذكور وقع منك حال شدة الغضب، وغيبة الشعور وأنك لم تملك نفسك ولم تضبط أعصابك بسبب كلامها السيئ وسبها لك وشتائمها ونحو ذلك، وأنك أطلقت هذا الطلاق في حال شدة غضب، وغيبة الشعور وهي معترفة بذلك أو لديك، من يعرف ذلك من الشهود والعدول فإنها لا يقع الطلاق لأن الأدلة الشرعية قد دلت أن شدة الغضب وإذا كان معه غياب الشعور كان أعظم، فلا يقع به الطلاق، ومن ذلك ما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا طلاق ولا عتاق في إغلاق. قال جماعة من أهل العلم الإغلاق الإكراه وهو الغضب يعنون الغضب الشديد، فالغضبان قد أغلق عليه أمره وقد أغلق عليه قصده فهو شبيه بالمعتوه والمجنون والسكران من شدة الغضب، فلا يقع طلاقه وإذا كان مع ذلك تغيب الشعور وأنه لم يحضر ما صدر منه بسبب شدة الغضب فإنه لا يقع الطلاق، والغضبان له ثلاث حالات: حالة يتغير معه الشعور، هذا يُلحق بالمجانين، ولا يقع الطلاق عند الجميع، عند جميع أهل العلم، والحال الثاني هنا: إذا اشتد به الغضب ولكن لم يفقد شعوره بل عنده شيء من الإحساس وشيء من العقل، ولكن سد به الغضب حتى ألجأه إلى الطلاق هذا لا يقع طلاق على الصحيح أيضاً، والحال الثالث أن يكون غضبه عادياً ليس بالشديد جداً بل عادياً كسائر الغضب الذي يقع من الناس، ليس بالشديد، ليس بالموجع، هذا يقع معه الطلاق عند الجميع، والسائل حاله إما من الوسط أو من الشديد الذي قد تغير معه الشعور حسب ما ذكر في سؤاله فيكون طلاقه غير واقع وزوجته معه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، نسأل الله للجميع الهداية والصلاح وحسن العاقبة.
مرکز الفتوی علی اسلام ویب یفتی کما یلی ،،
لسؤال
رجل قال لزوجته عندما غضب عليها اذهبي أنت طالق لاسيما وأنها طلبت ذلك منه عندما رفع صوته عليها ، المشكلة أن هذه الحادثة تكررت ثلاث مرات لكن في المرة الثالثة كان الزوج غاضباً جداً لدرجة أنه كسر الزجاج والأبواب ، فهل يقع الطلاق رغم كون الزوج في حالة الغضب ؟ أفيدونا أفادكم الله .
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أما بعد:
ليس كل خلاف ينبعث عنه الطلاق وإنما الذي ينبعث عنه الطلاق ويعينه هو دوام الشقاق الذي يستحيل معه العشرة الزوجية وفي حالة الشقاق نفسه لا يجوز فصم عرى الزوجية مباشرة ، فلا بد من الإصلاح بين الزوجين وإجراء التحكيم قبل الطلاق ، فإن نفدت وسائل الإصلاح والجمع وتحقق لدى الحكمين أن التفريق أجدى فالفرقة في هذه الحالة أفضل قال تعالى : ( وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته) [النساء: 130] . والطلاق أمر يبغضه الله تعالى ، قال صلى الله عليه وسلم : ” أبغض الحلال إلى الله الطلاق ” .[ رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم وضعفه الألباني] . واللفظ المذكور في السؤال من الألفاظ الصريحة في الطلاق ، فيقع بها الطلاق دون الحاجة إلى نية ، فيحسب عليه طلقتان ، وأما الثالثة التي تلفظ بها في حالة الغضب ، فإنه من المعلوم أن الغضب أقسام : 1 : يحصل للإنسان مبادئه وأوائله ولكنه لا يغير من عقله فهو يعي ما يقول ، فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه . 2 : يبلغ به الغضب نهايته فلا يعي ما يقول ، فلا خلاف في عدم وقوعه . 3 : يستحكم به الغضب ويشتد عليه فلا يزيل عقله ، فهو يعي ما يقول ، ولكنه يحول بينه وبين نيته ، ففيه خلاف ولكن الأدلة كما قال ابن القيم – تدل على عدم وقوع طلاقه وعقوده التي يبرمها في معاملاته . فإن كان الغضب من الحالتين الأخيرتين فلا يقع الطلاق ، وعلى السائل أن يراجع المحكمة الشرعية في بلده ، وننصحه بأن يتريث ولا يتسرع في الطلاق ، وأن يضبط ألفاظه ، والله الموفق والهادي لكل خير ، والله أعلم .